مفهوم "الاشتراكية".. النشأة والتطور التاريخي

ملخص :
تُعد الاشتراكية واحدة من أكثر الأيديولوجيات تأثيرًا في الحياة السياسية والاقتصادية العالمية، إذ اتخذت أشكالًا متعددة عبر التاريخ، واكتسبت مكانتها من كونها ردًا مباشرًا على الظلم الاجتماعي الناتج عن الملكية الخاصة غير المقيدة، ومن دفاعها عن حق المجتمع في السيطرة على الموارد والثروات، وعلى الرغم من تباين مدارسها بين المثالي والعلمي، والثوري والسلمي، فإن جوهرها تركز في السعي نحو مجتمع تتوزع فيه الثروة بشكل منصف، ويُلغى فيه استغلال الإنسان لأخيه الإنسان.
تعريف الاشتراكية ومبادئها الجوهرية
تمثل الاشتراكية نظامًا اقتصاديًا واجتماعيًا يدعو إلى اعتماد الملكية العامة بدلًا من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فوفق هذا التصور، لا يمكن فصل الفرد عن محيطه، لأن ما ينتجه الإنسان-في نظر الاشتراكيين-هو نتاج لمجهود جماعي، وليس لجهد فردي خالص، ولهذا يحق لجميع من يساهم في الإنتاج الحصول على نصيب من ثماره.
وتستند الاشتراكية إلى فكرة أساسية مفادها أن المجتمع هو المالك الحقيقي للموارد الطبيعية وللثروات الناتجة عنها، على أن تتولى الدولة أو الهيئات الجماعية إدارة هذه الموارد بما يخدم الصالح العام، وفي ظل هذا النظام، تُلغى الملكية الفردية التي تستلزم عمالة لاستثمارها، بينما تبقى الملكيات الشخصية التي لا تُستغل لتحقيق الربح-مثل المساكن والملابس-مباحة.
وتهدف هذه الرؤية إلى تحقيق مساواة اقتصادية بين الناس عبر القضاء على الفوارق الناجمة عن الثروات المكتسبة بالوراثة، لذلك تُلغي الاشتراكية الإرث بوصفه آلية تؤدي إلى تكريس امتيازات غير عادلة.
الجذور التاريخية
ظهرت بذور الفكر الاشتراكي قبل قرون طويلة، عندما بدأت الطبقات الفقيرة تعبر عن رفضها لهيمنة الطبقات المترفة في المجتمعات القديمة، لكن القرن الثامن عشر حمل تحولًا مفصليًا في مسار الاشتراكية، بفضل حدثين رئيسيين:
أولا: الثورة الفرنسية: في عام 1789، نجحت الثورة الفرنسية في إسقاط الحكم الملكي وبدا وكأن عهدًا جديدًا من الحرية والمساواة قد بدأ، غير أن صعود طبقة برجوازية جديدة أعاد إنتاج صور أخرى من الاستغلال، إذ بقيت الثروات في يد فئة محدودة، فيما ظل العمال والكادحون بعيدين عن مكاسب الثورة، وقاد هذا الإحباط الكثيرين إلى البحث عن بديل فكري يعيد النظر في العلاقة بين الملكية والسلطة.
ثانيا: الثورة الصناعية: شهدت إنجلترا في القرن الثامن عشر ثورة صناعية قلبت بنية الإنتاج رأسًا على عقب، فبينما تضاعفت الثروات لدى أصحاب رؤوس الأموال، وجد ملايين العمال-ومن بينهم الأطفال والنساء-أنفسهم يعملون لساعات طويلة تصل إلى 16 ساعة يوميًا في ظروف قاسية، عزز هذا التناقض الصارخ الوعي الطبقي لدى العمال، وأدى إلى بروز الحركات العمالية المنظمة التي طالبت بحمايتهم من الاستغلال.
ومع اتساع الهوة بين الطبقتين، ظهرت معارضة متنامية للرأسمالية الليبرالية التي اعتمدت على حرية السوق وتركت مصائر الناس للمنافسة غير المنظمة.
مرتكزات الفكر الاشتراكي
قامت الاشتراكية على ثلاثة أعمدة رئيسية:
- البعد الفلسفي: ينطلق من افتراض أن المجتمعات القائمة ظالمة بطبيعتها لأنها تُنتج علاقات غير متكافئة بين الطبقات، وأن هذه البنية تنتج صراعًا محتومًا لا يمكن تجاوزه إلا بتغيير جذري.
- البعد الاقتصادي: يركز على ضرورة إعادة توزيع الدخل وتحقيق توازن بين الإنتاج والاستهلاك، مع اعتبار أن التأميم-أي نقل الملكية إلى الدولة-هو السبيل لتحقيق المصلحة العامة.
- البعد النضالي: يرى أن التغيير لا يأتي تلقائيًا، بل يتطلب نضالًا منظمًا، وتتزايد فعاليته كلما كان أكثر وعيًا وتنسيقًا.
وبالرغم من اتفاق الاشتراكيين على المبادئ العامة، فقد تفرعت الاشتراكية إلى مدارس متعددة، حمل كل منها رؤية مختلفة حول كيفية تنفيذ الأفكار الاشتراكية.
الاشتراكية المثالية
نشأت الاشتراكية المثالية أو الطوباوية في بداية القرن التاسع عشر، وتميزت بنزعتها الأخلاقية والإنسانية، فقد رأى روادها أن المشكلة الأساسية للرأسمالية ليست اقتصادية فقط، بل أخلاقية كذلك، ودعوا إلى إنشاء مجتمعات تعاونية تقدم نموذجًا بديلًا للمجتمع القائم.
وأبرز رموز الاشتراكية المثالية
- روبرت أوين: اعتقد أن إصلاح أحوال العمال يبدأ بخلق بيئة معيشية أفضل، واقترح بناء مجتمعات تعاونية تضم مئات الأفراد يعيشون بالقرب من أماكن عملهم.
- شارل فورييه: تصور إنشاء "كتائب اجتماعية" تضم آلاف الأفراد يعيشون وفق تنظيم دقيق للملكية والعمل.
- سان سيمون ولويس بلان: دعوا إلى تنظيم النشاط الاقتصادي بما يضمن العدالة والرفاه للجميع.
ورغم انتشار هذه التجارب، إلا أنها تعرضت لانتقادات واسعة لكونها مثالية وغير قابلة للتطبيق على نطاق واسع، لأنها اعتمدت على إقناع الطبقات الغنية بالتخلي طوعًا عن امتيازاتها.
الاشتراكية العلمية
جاءت الاشتراكية العلمية لتقدم تفسيرًا علميًا لحركة التاريخ، وتنسب إلى كارل ماركس، وفريدريك إنجلز اللذين اعتبرا أن تطور المجتمعات تحكمه قوانين مادية وليست أفكارًا مثالية.
ركائز الاشتراكية العلمية
- الرأسمالية مرحلة تاريخية مؤقتة.
- الصراع الطبقي هو المحرك الأساسي للتاريخ.
- طبقة العمال (البروليتاريا) هي القوة القادرة على إسقاط الرأسمالية.
- الدولة في المرحلة الاشتراكية يجب أن تسيطر بالكامل على وسائل الإنتاج.
- المجتمع الشيوعي هو المرحلة النهائية التي تختفي فيها الطبقات والدولة.
ومع أن ماركس وأنجلز اعتبرا الثورة الطريق الوحيد للتغيير، إلا أن الواقع لم يقدم الثورة المنتظرة في أوروبا الغربية، ما أدى لاحقًا إلى ظهور اتجاهات اشتراكية أكثر اعتدالًا.
اشتراكية مشتقة
- الاشتراكية المسيحية: ربطت بين الأخلاق المسيحية ومبادئ العدالة الاجتماعية، وبرزت خاصة في بريطانيا والولايات المتحدة. لم تقدّم برنامجًا اقتصاديًا صريحًا لكنها دعت إلى التعاون وتحقيق المساواة في ضوء القيم الدينية.
- الاشتراكية الأناركية: اعتبرت الدولة والرأسمالية والدين أدوات للقمع، ودعت إلى مجتمع بلا حكومة.
- الاشتراكية الفابية: وُصفت بأنها اشتراكية تدريجية، تعتمد على التغيير البطيء عبر التعليم والإقناع، وليس الثورة، ولعب الفابيون دورًا مؤثرًا في تشكيل حزب العمال البريطاني.
- الاشتراكية النقابية: ظهرت في بريطانيا مع بدايات القرن العشرين، ودعت إلى منح النقابات العمالية السيطرة على الصناعات، مع تقليل دور الدولة.
- الاشتراكية الديمقراطية: شكلت تحولًا جذريًا في الفكر الاشتراكي عبر رفض الثورة كأداة للتغيير والدعوة إلى الإصلاح عبر المؤسسات السياسية، وقد تأثرت بإدوارد برنشتاين الذي أكد قدرة الرأسمالية على التكيف وطالب بالتحول التدريجي نحو العدالة الاجتماعية، ومنذ منتصف القرن العشرين أصبحت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية جزءًا أساسيًا من الحياة السياسية في أوروبا.
الاشتراكية في القرن العشرين
بعد الحرب العالمية الثانية، صعدت الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية في ألمانيا، وبريطانيا، والسويد وغيرها، وأرست قواعد أنظمة الرعاية الاجتماعية الحديثة التي ضمنت التعليم المجاني والتأمين الصحي وحماية حقوق العمال، ومع نهاية القرن، أعادت الاشتراكية الديمقراطية تعريف نفسها عبر الجمع بين اقتصاد السوق والتنظيم الحكومي، فيما تراجع النفوذ التقليدي للماركسية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
منذ نشأتها الأولى في مواجهة الظلم الطبقي، وحتى تحوّلها إلى نُظم سياسية واقتصادية معاصرة، ظلت الاشتراكية مشروعًا فكريًا مفتوحًا يعكس تطلعات الملايين حول العالم إلى مجتمع أكثر عدالة وإنصافًا، وبين المدارس المثالية والعلمية، والفابية والديمقراطية الاجتماعية، عكس هذا الفكر قدرة دائمة على التأقلم مع تغيرات العصر، رغم اختلاف رؤى أتباعه حول كيفية تطبيقه.





