حرب داخل حرب.. "عملية نارنيا" جوهر الحرب الإسرائيلية-الإيرانية في حزيران الماضي

ملخص :
في الدقائق الأولى من حرب قصيرة لكنها شديدة التدمير، تجاوزت إسرائيل خطًا أحمر تجنبت عبوره لعقود، عبر تنفيذ اغتيالات علنية طالت كبار العلماء النوويين الإيرانيين، وجاء ذلك ضمن هجوم عسكري واستخباراتي منسق، كُشف عن تفاصيله في تحقيق استقصائي أجرته واشنطن بوست، بالتعاون مع برنامج فرونتلاين التابع لشبكة التلفزة الأميركية (BBC).
"عملية نارنيا".. التخطيط والتنفيذ
يوضح التحقيق كيف جرى الإعداد بدقة لهذه الحملة التي حملت الاسم الرمزي "عملية نارنيا"، وكيف أُديرت سياسيًا ونُفذت بصرامة محسوبة، ففي يونيو/حزيران الماضي، أطلقت إسرائيل حملة واسعة ضد إيران، مزجت بين الضربات الجوية والعمليات البرية السرية واغتيالات دقيقة، بهدف شلّ البرنامج النووي الإيراني.
قلب حملة "الأسد الصاعد"
لم تكن "عملية نارنيا" مجرد ملحق لحملة "الأسد الصاعد" الجوية الأوسع، التي شنتها إسرائيل في 13 يونيو/ حزيران بمشاركة أكثر من 200 طائرة مقاتلة، بل شكّلت جوهرها الإستراتيجي، وبررت إسرائيل العملية باعتبارها ضربة وقائية لمواجهة ما وصفته بالتهديد الوجودي الناجم عن البرنامج النووي الإيراني، مشيرة إلى تطوير طهران صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية، في المقابل، وصفت إيران الهجوم بأنه عدوان خطير وجريمة حرب وإعلان حرب يستوجب الرد.
حرب خفية داخل طهران
وبحسب واشنطن بوست، بينما كان العالم يراقب أعمدة الدخان المتصاعدة من منشآت تخصيب اليورانيوم، كانت حرب أخرى أكثر دقة تُدار داخل أحياء طهران السكنية، فقد استهدفت "عملية نارنيا" تصفية أبرز العلماء النوويين الذين اعتبرهم مسؤولون إسرائيليون وأميركيون العمود الفقري لأي مساعٍ مستقبلية لصنع سلاح نووي.
بداية العمليات والضحايا المستهدفون
انطلقت العملية فجر 13 يونيو/حزيران 2025، بالتزامن مع اندلاع الحرب التي استمرت 12 يومًا، واستهدفت أسلحة إسرائيلية مباني سكنية، ما أدى إلى مقتل فيزيائيين ومهندسين نوويين داخل منازلهم، وكان من بين أوائل القتلى، محمد مهدي طهرانجي، الفيزيائي النظري وخبير المتفجرات الخاضع لعقوبات أميركية، وفريدون عباسي، الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، الذي سبق أن نجا من محاولة اغتيال عام 2010، وأعلنت إسرائيل لاحقًا اغتيال 11 عالمًا نوويًا خلال اليوم الأول والأيام التالية.
هدف الحملة: "مجمع الأدمغة"
قال مسؤولون إسرائيليون وأميركيون إن الهدف لم يقتصر على تدمير المنشآت، بل شمل إعادة البرنامج النووي سنوات إلى الوراء عبر القضاء على مجمع الأدمغة؛ أي جيل من العلماء يمتلك المعرفة اللازمة لتحويل اليورانيوم المخصب إلى سلاح نووي عملي.
استعداد استخباراتي طويل الأمد
يكشف التحقيق أن إسرائيل كانت تستعد لهذه اللحظة منذ سنوات، إذ جمعت أجهزتها الاستخباراتية ملفات دقيقة عن كبار العلماء النوويين الإيرانيين، شملت أبحاثهم وتحركاتهم اليومية ومساكنهم وشبكاتهم الاجتماعية، ومن قائمة أولية ضمت نحو 100 عالم، جرى تقليص الأهداف إلى قرابة 12 شخصًا اعتُبروا غير قابلين للتعويض على المدى القريب.
انتقال إلى العلن بعد سنوات من السرية
وعلى خلاف عمليات الاغتيال السابقة التي نُفذت سرًا مع إنكار رسمي، نُفذت هذه الحملة علنًا، ويعزو مسؤولون إسرائيليون ذلك إلى ثقة متزايدة بعد سنوات من استهداف وكلاء إيران، وعلى رأسهم حركة حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، إضافة إلى انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، الحليف الإستراتيجي لطهران.
خسائر مدنية مثيرة للجدل
غير أن العملية خلّفت خسائر مدنية كبيرة، فقد وثّقت واشنطن بوست وموقع بيلينغكات مقتل ما لا يقل عن 71 مدنيًا في خمس ضربات استهدفت علماء نوويين، ففي "مجمع الأساتذة" بطهران، قُتل 10 مدنيين، بينهم رضيع عمره شهران، وفي ضربة أخرى استهدفت العالم محمد رضا صديقي صابر، الذي لم يكن موجودًا في منزله، قُتل ابنه البالغ 17 عامًا.
وأقرّ مسؤولون إسرائيليون بالمخاطر المرتبطة باستهداف أشخاص في أحياء مدنية، مؤكدين في الوقت ذاته بذل أقصى الجهود لتقليل الأضرار الجانبية.
تبادل الاتهامات والردود المتبادلة
اتهمت إيران إسرائيل باستهداف المدنيين عمدًا، وأعلنت مقتل أكثر من ألف شخص، في المقابل، قالت إسرائيل إن الضربات الإيرانية المضادة أسفرت عن مقتل 31 إسرائيليًا وإصابة منشآت مدنية.
تقييم الأضرار النووية
تشير التقييمات الاستخباراتية، بحسب الصحيفة، إلى أن الأضرار كانت جسيمة لكنها غير حاسمة، إذ يتفق مسؤولون أميركيون وإسرائيليون، والوكالة الدولية للطاقة الذرية على أن البرنامج النووي الإيراني تراجع عدة سنوات، دون أن يُدمَّر بالكامل، وما تزال إيران تمتلك نحو 900 رطل من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، وهو مستوى قريب من الاستخدام العسكري، كما مُنع مفتشو الوكالة من الوصول إلى مواقع رئيسية بعد الحرب.
تنسيق أميركي-إسرائيلي وخداع دبلوماسي
يكشف التحقيق مستوى عالٍ من التنسيق بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وإدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فالحرب سبقتها أشهر من المناورات الدبلوماسية والتضليل، حيث عرض نتنياهو أربعة سيناريوهات للهجوم، تراوحت بين ضربة إسرائيلية منفردة وقيادة أميركية كاملة، ورغم إظهار ترامب تفضيله للحل الدبلوماسي، استمر التخطيط المشترك وتبادل المعلومات، مع الترويج لخلافات ظاهرية لخداع طهران.
"خديعة" المفاوضات والضربة الأميركية
أفاد التقرير بأن المحادثات النووية التي كانت مقررة في 15 يونيو/ حزيران لم تكن سوى خديعة لإبقاء القيادة الإيرانية غير مستعدة، وحتى مع بدء القصف، أرسلت واشنطن عرضًا نهائيًا عبر وسطاء قطريين، تضمّن رفع العقوبات مقابل تفكيك منشآت التخصيب ووقف دعم الجماعات المسلحة، وهو ما رفضته طهران.
"العاصفة الكاملة" والظروف الإقليمية
تصف الصحيفة السياق الإقليمي بـالعاصفة الكاملة التي شجعت إسرائيل على الهجوم، فقد أدى انهيار نظام بشار الأسد عام 2024 إلى قطع الممر البري لإيران، فيما أسهم إضعاف حزب الله وحماس، ومقتل أمين عام حزب الله حسن نصر الله، وتدمير أنظمة الدفاع الجوي الروسية، في تقليص أدوات الردع الإيرانية، ما منح إسرائيل ما اعتبرته فرصة عملياتية فريدة.
نجاح موضع نقاش ومستقبل غامض
رغم حجم الدمار، يبقى نجاح الحملة على المدى الطويل محل جدل، فقد وصف معهد العلوم والأمن الدولي الأضرار في منشآت مثل نطنز وأصفهان بأنها كارثية، فيما أكد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، تضرر قدرة إيران على تكرير اليورانيوم بشدة، ومع ذلك، نقلت الصحيفة عن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، قوله إن البرنامج النووي لا يمكن تدميره، لأن المعرفة لا تُمحى بالقنابل.
مع شروع إيران في إعادة البناء وتوسيع منشآت تحت الأرض، يخلص التحقيق إلى أن الضربات الإسرائيلية والأميركية ربما أخّرت الطموحات النووية الإيرانية، لكنها لم تعالج جوهر المشكلة، وقد تدفع طهران إلى العودة ببرنامج أكثر سرية وتحصينًا في المستقبل.





