السردية الأردنية: من خطاب الدولة إلى حكاية جيل
ملخص :
في هذه الحلقة من برنامج «بعد الحدث»، نناقش مفهوم السردية بعيدًا عن الاستخدام الرائج له ككلمة تجميلية أو شعار إعلامي، ونعود إلى جذوره التاريخية واللغوية، قبل أن نضعه في سياقه السياسي والاجتماعي في الحالة الأردنية.
تنطلق الحلقة من سؤال أساسي:
هل السردية مسؤولية الدولة؟ أم نتاج المجتمع؟ أم أداة سياسية تُستخدم حين يغيب المشروع والثقافة؟
يوضح الحوار أن السردية، تاريخيًا، نشأت في الأدب الأوروبي بعد الحرب العالمية الأولى، ثم انتقلت إلى اللغة، قبل أن يتم استلابها سياسيًا وتحويلها إلى أداة تُستخدم في الإعلام، العلاقات العامة، والبروباغندا. لكنها ليست علمًا قائمًا بذاته في السياسة، بل وسيلة تُستخدم عندما تغيب المعاني الواضحة.
تطرح الحلقة إشكالية مركزية تتعلق بالشباب اليوم، الذين لم يعودوا معنيين بالخطاب الرسمي أو البيانات التقليدية، بل يبحثون عن تفسير، دليل، وسياق يفهم “لماذا” يحدث ما يحدث. هذا التحول كشف فراغًا داخليًا في الخطاب الوطني، سمح لقوى منظمة – مثل تيارات الإسلام السياسي – بملء هذا الفراغ عبر بناء سرديات بديلة، تعتمد على العاطفة والبراغماتية لا على مشروع دولة.
في المقابل، تناقش الحلقة أمثلة حيّة على سرديات مجتمعية ناجحة نشأت خارج الدولة، مثل حالة المنتخب الوطني الأردني، التي تحولت إلى قوة ناعمة جامعة خلقت شعورًا بالانتماء والتماهي، دون تدخل رسمي مباشر.
الحلقة تميّز بوضوح بين:
- الدولة بوصفها كيانًا قانونيًا ودستوريًا.
- الأنظمة بوصفها خيارات سياسية.
- السرديات بوصفها حكايات مجتمعية تتشكل في الفراغات.
- وتخلص إلى أن أخطر ما تواجهه الدولة هو أن تُترك قصتها ليكتبها الآخرون، في الداخل والخارج، خاصة في عصر السوشيال ميديا، حيث يصبح الهجوم والتشكيك أسهل من الفهم.
السردية ليست حكاية… بل سؤال الدولة المؤجل
تحوّل مصطلح “السردية” في السنوات الأخيرة إلى كلمة فضفاضة تُستخدم لتبرير كل شيء، من الخطاب السياسي إلى الفشل العام. لكن المشكلة لا تكمن في المصطلح نفسه، بل في الفراغ الذي سمح له بالتمدد.
الدولة الحديثة لا تُبنى على الحكايات، بل على الدستور، المواطنة، والحقوق والواجبات. حين تتحول الدولة إلى “راوية قصص”، تفقد وقارها، ويبدأ المجتمع بالبحث عن بدائل عاطفية تملأ هذا الفراغ. هنا لا يعود السؤال: ما هي سردية الدولة؟ بل: لماذا احتاج المجتمع إلى سردية أصلًا؟
في الحالة الأردنية، يظهر هذا الفراغ بوضوح. خطاب الدولة، في كثير من الأحيان، بات خطاب أزمات، لا خطاب مجتمع. ينجح خارجيًا في بناء صورة دبلوماسية واضحة، لكنه يعجز داخليًا عن إقناع مواطنيه بها. والنتيجة: هشاشة داخلية تجعل أي إنجاز، مهما كان حقيقيًا، عرضة للتشكيك والهجوم، حتى لو صدر الاعتراف به من أطراف إقليمية ودولية.
السرديات لا تُفرض بقرار، ولا تُصنع بحملة إعلامية. هي نتاج ثقافة، تعليم، فن، وإعلام حر. وهي ملك لجيل كامل يحاول أن يفهم نفسه، لا ملك دولة ولا حكومة. حين تُمنع الموسيقى من المدارس، ويُهمَّش التاريخ، ويُختزل الوطن في شعارات وجدانية، يصبح من الطبيعي أن ينشأ وعي جمعي مشوَّه، يسهل اختراقه.
المفارقة أن المجتمع يصدق السردية حين يشعر أنها نابعة منه. لذلك نجحت سردية المنتخب الوطني، لأنها لم تُقدَّم كواجب وطني، بل كفرح مشترك. بينما تفشل السرديات الرسمية حين تُقدَّم بلغة الوصاية أو التخوين.
الخطر الحقيقي ليس غياب السردية، بل غياب فكرة الدولة نفسها في الوعي العام. دولة تُعرّف نفسها بوضوح، لا تحتاج إلى تزيين خطابها. ودولة لا تُشرك شبابها في فهمها، ستجد نفسها موضوعًا لحكايات الآخرين.
في النهاية، السردية ليست قصة نكتبها للعالم، بل مرآة نواجه بها أنفسنا أولًا. ومن لا يجرؤ على مواجهة أسئلته الداخلية، لن يقنع أحدًا في الخارج.




