وعد بلفور.. 108 أعوام من الاحتلال والاعترافات بفلسطين تهز أركان الوعد
عقود من القتل والتهجير حلت على الشعب الفلسطيني لكن كل طفل ما زال يمسك بمفتاح ورثه من أجداده ليعود إلى قريته

ملخص :
في الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1917، وجّه اللورد آرثر جيمس بلفور، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، رسالة إلى اللورد روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا، وعلى الرغم من قصرها، فإن الرسالة كانت ذات أثر عميق، إذ تضمنت وعدًا بإقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وجاء في نصها "تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية."
تلك الكلمات كانت الشرارة التي قلبت وجه المنطقة، إذ منحت بريطانيا ما لا تملك لمن لا يستحق، متجاهلة وجود شعب متجذر في أرضه منذ آلاف السنين.
الانتداب البريطاني: من الوعد إلى التنفيذ
بعد انهيار الدولة العثمانية، وضعت عصبة الأمم فلسطين تحت الانتداب البريطاني عام 1920، واستغلت بريطانيا هذا الغطاء لتنفيذ وعد بلفور تدريجيًا:
- فتحت أبواب الهجرة أمام اليهود وسهّلت استيطانهم.
- دعمت تشكيل ميليشيات مسلحة مثل "الهاجاناه" و"الإتسل".
- قمعت أي مقاومة فلسطينية ومنعتهم من امتلاك السلاح أو التنظيم السياسي.
النكبة
كانت الثورة الفلسطينية الكبرى (1936–1939) صرخة شعب أدرك حجم المؤامرة، لكنها قُمعت بالقوة، وعندما انسحبت بريطانيا عام 1948، تركت خلفها أرضًا مشتعلة، ليعلن الصهاينة قيام دولة إسرائيل على أنقاض أكثر من 500 قرية فلسطينية مدمرة، فيما عرف بالنكبة، التي هجّرت أكثر من 750 ألف فلسطيني.
من النكبة إلى النكسة: الحروب والدمار المستمر
وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر: "إسرائيل ليست مجرد دولة، بل أداة استراتيجية غربية لتثبيت موازين القوى في الشرق الأوسط.. وعد بلفور كان وعدًا بدمٍ لا بحبر"، منذ ذلك الحين، أصبحت المنطقة رهينة لحروب مستمرة، واتفاقيات سلام هشّة، وصراعات متكررة، ولم تتوقف الكارثة عند حدود فلسطين، بل امتدت إلى كل المنطقة:
- 1948: اندلعت أول حرب عربية–إسرائيلية.
- 1956 (العدوان الثلاثي): شنت إسرائيل مع فرنسا وبريطانيا هجومًا على مصر بعد تأميم قناة السويس.
- 1967 (النكسة): احتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وسيناء والجولان.
- 1973: محاولة مصر وسوريا استعادة أراضيهما، انتهت بتغيير موازين القوى وبدء مفاوضات سلام منفردة.
الاستيطان: تنفيذ الوعد على الأرض
بعد حرب 1967، بدأت إسرائيل بفرض وقائع ميدانية جديدة:
- أنشأت عشرات المستوطنات في الضفة الغربية والقدس.
- صادرت الأراضي وبنت شبكة طرق للفصل بين الفلسطينيين والمستوطنين.
- اليوم، يعيش أكثر من 750 ألف مستوطن في أكثر من 280 مستوطنة.
ووصفت الأمم المتحدة هذه الأنشطة في القرار 2334 لعام 2016 بأنها "انتهاك صارخ للقانون الدولي"، لكن إسرائيل استمرت في التوسع تحت حماية الدعم الأمريكي والصمت الدولي.
غزة: من الانسحاب إلى الحصار والدمار
في عام 2005، انسحبت إسرائيل من قطاع غزة، لكنها حولته إلى سجن مفتوح، تتحكم في حدوده ومياهه وأجوائه، منذ ذلك الحين، شنت إسرائيل على القطاع حروبًا متكررة في 2008 و2012 و2014 و2021، وصولًا إلى الحرب الأخيرة بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 و2024، مخلفة عشرات آلاف القتلى والجرحى المدنيين.
وقد قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: "ما يجري في غزة ليس دفاعًا عن النفس، بل عقاب جماعي يخرق القانون الإنساني الدولي."
فيما اعتبرت منظمة العفو الدولية الهجمات الإسرائيلية على المدنيين في غزة "جرائم حرب يجب التحقيق فيها ومحاسبة مرتكبيها".
جدار الفصل العنصري: رمز العزلة والتمييز
في مطلع الألفية الثالثة، شرعت إسرائيل ببناء جدار يفصل الضفة الغربية عن أراضي عام 1948، متذرعةً بالأمن، لكنه ابتلع أكثر من 10% من مساحة الضفة، وعزل مئات القرى عن أراضيها ومصادر رزقها.
وأصدرت محكمة العدل الدولية عام 2004 فتوى قانونية تؤكد أن الجدار "غير شرعي" ويجب تفكيكه فورًا، وفي 2021، وصفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" النظام الإسرائيلي بأنه "نظام هيمنة قائم على التفوق اليهودي"، بينما اعتبرت العفو الدولية عام 2022 أن إسرائيل "تمارس نظام فصل عنصري شامل ضد الفلسطينيين".
اعتداءات إسرائيل على دول المنطقة
لم يقتصر الاحتلال على فلسطين، بل امتد إلى الخارج:
- قصفت لبنان واحتلت جنوبه عام 1982، وما زالت تقفصه إلى يومنا هذا.
- هاجمت سوريا واستولت على الجولان منذ 1967.
- نفذت غارات في العراق والسودان وإيران تحت ذريعة "الدفاع الاستباقي".
هذه الاعتداءات جعلت الشرق الأوسط أحد أكثر مناطق العالم اضطرابًا، وأبقت الصراعات مشتعلة لعقود طويلة.
وعد بلفور.. "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"
بعد أكثر من 100 عام على وعد بلفور، برزت موجة دولية موسّعة من الاعتراف بـ دولة فلسطين كدولة ذات سيادة، إذ أصبحت معترفاً بها رسمياً نحو 157 دولة من بين 193 دولة أعضاء في الأمم المتحدة، أي ما يزيد على 80 ٪ من المجتمع الدولي، هذا الاعترافات تعكس المقولة الشهيرة بأن وعد بلفور هو وعد من لا يملك لمن لا يستحق، وتحول دبلوماسيا يُعيد تأكيد الحق الفلسطيني في تقرير المصير، ويشكّل رسالة قوية بأن حقوق الشعب الفلسطيني ليست عرضة للمساومة أو التأجيل.
أتت الاعترافات في سياق إقليمي ودولي حساس، حيث تُعانى القضية الفلسطينية من واقع احتلال طويل ونزاع معقد، وحرب إبادة جماعية تعرض لها قطاع غزة على مدار العاميين الماضيين.
الفلسطينيون في الشتات: وطن في الذاكرة
يعيش اليوم أكثر من 6 ملايين فلسطيني في مخيمات الشتات داخل الأردن ولبنان وسوريا وخارجها، ورغم مرور أكثر من سبعين عامًا على النكبة، ما زال اللاجئون يحتفظون بمفاتيح بيوتهم القديمة ويرفضون التنازل عن حق العودة المنصوص عليه في القرار الأممي 194 لعام 1948.
في المخيمات، تُدرّس أسماء القرى المدمرة للأطفال وتُعلّق خرائط فلسطين على الجدران كجزء من الهوية والذاكرة الجماعية.
تعامل المجتمع الدولي: ازدواجية ولامبالاة
على مدار عقود، أصدرت الأمم المتحدة أكثر من مئة قرار تدين الاحتلال الإسرائيلي وتؤكد حقوق الفلسطينيين، لكن معظمها بقي حبرًا على ورق بسبب الفيتو الأمريكي المتكرر.
وأكدت العفو الدولية في تقريرها لعام 2023 أن: "فشل المجتمع الدولي في محاسبة إسرائيل منحها حصانة مطلقة لتكرار جرائمها."
وحتى وكالة الأونروا التي تعنى باللاجئين الفلسطينيين تواجه ضغوطًا مالية وسياسية هائلة، في محاولة لإنهاء دورها كشاهد على مأساة اللجوء الأطول في التاريخ الحديث.
بعد أكثر من مئة وثمانية أعوام، لا يزال وعد بلفور حاضرًا في تفاصيل المشهد الفلسطيني: في كل مستوطنة تُبنى، وفي كل جدار يُرتفع، وفي كل قصف على غزة، وفي كل لاجئ يحمل مفتاح بيته في المنفى.
لقد كان وعد بلفور مشروعًا استعماريًا مستمرًا، نُفذ عبر الانتداب ثم الاحتلال، وتحول من رسالة بريطانية إلى واقع دموي ترعاه القوى الكبرى، لكن الفلسطينيين لم يتخلوا عن أرضهم ولا عن حقهم، مؤمنين أن العودة ليست حلماً، بل حقًا مؤجلًا بعدلٍ مؤجل.





